التفريق بين القومية والوطنية
يوجد لبس في استخدام مصطلحي قومية ووطنية في اللغة العربية لأن أصل استخدام هذه المصطلحات في العالم العربي المعاصر يعود إلى استخداماتها في الثقافة الغربية· فبالنسبة لمصطلح القومية سواء في اللغة الانجليزية باستخداماتها البريطانية أم الأميركية، أو في الفرنسية فإن مصطلح Nationality أو Nationalite' تحمل في معناها العربي الاستخدامين: فيمكن القول بأنها تعني القومية أو يمكن القول بأنها تعني الوطنية· وهي في أصلها اللاتيني تعني بالتحديد القطر أو الدولة التي يحمل المرء هويتها أو مواطنتها·
وبعيداً عن هذه الفروقات الرسمية للاستخدام فإن الأمم والجماعات المختلفة قامت من وقت إلى آخر بالتركيز بشكل متفاوت على أهمية المواطنة وجذور الأصل واللغة والدين والعوامل الأخرى لتحديد الهوية الوطنية أو القومية· ولكن رغم السماح لجميع تلك الاختلافات بالتواجد والعمل على هذه الصعد إلا أن الحقيقة تبقى بأن الشعوب في أوروبا والأميركيتين تقوم بتعريف هويتها وولاءاتها في صنع القومية، أي عن طريق الكومة التي يحمل الفرد هويتها أو مواطنتها والقطر الذي يعيش فيه والعرق البشري الذي يعتقد بأن سلالته تنحدر منه واللغة التي يتحدث بها، وإن كان ذلك يحدث بدرجات مختلفة·
إن الصورة التي ر سمناها أعلاه ليست هي المتواجدة في الفكر العربي الإسلامي، وبالضرورة لدى كافة الشعوب الغير عربية التي تعتنق الإسلام، فالأصل العرقي واللغة وبلد الإقامة كانت جميعها ذات أهمية ثانوية قبل أن تنتشر أفكار كافة الدولة القومية في العصور الحديثة وتنتقل عبر تركيا إلى العالم العربي والإسلامي· إن مصطلح الأمة السياسية لم يجد طريقه إلى الاستخدام لدى الشعوب العربية والإسلامية سوى خلال القرنين الماضيين التاسع عشر والعشرين نتيجة للنفوذ الغربي المستجد في بلدانها· لقد كان التقسيم الأساسي وحجر الزاوية الذي يتم على أساسه التفريق لدى المسلمين بين الأخوة والغرباء هو ذلك الخاص بالمعتقد وبالعضوية في المجتمع الإسلامي·
إن القومية والوطنية هما المصطلحان اللذان يعبران عن نوع الولاء الطبيعي المشترك، وكلا المصطلحين ذو محتوى غير مستقر ويحتاج إلى أن يتم التعامل معه بحرص· ومعناهما في لغات مختلفة يصاحبه عند الاستخدام ارتباطات وإيحاءات مختلفة، فقد نكون مجمعين في كل المواقف على أن الوطنية أمر جيد وتصرف إنساني صحيح، فحب الوطن والولاء الذي يكنه كل منا لوطنه أمر مشرف· ولكن مصطلح القومية يعتبر غريب علينا كعرب، فتعبير القومية العربية لا يأتي سلساً إلى اللسان وخاصة لدى عامة العرب المسلمين، فبرغم ما يقوله العرب بأن فلان ينتمي إلى القوم الفلانيين إلا أن استخدام المصطلح يعني الجماعة وليس العرق، فالمحتوى الضمني لكلمة قومية في العربية يعني شيئاً آخر غير الذي تذهب إليه اللغات الغربية·
إن أول تباشير أنواع الولاء الجديدة في المنطقة العربية أخذت صيغ الوطنية وليس القومية، وقد تأثرت بالمثال الأوروبي خاصة فرنسا وبريطانيا حيث تم تعريف الوطن والدولة والمواطنة على أنها الولاء الذي يكون به المواطن مديناً لوطنه وعادة ما يتم تسديده إلى الحكومة عندما يحين الوقت· وهذا الفهم الجديد الذي يبدو بأنه يقوي الادعاءات التي تطلقها الدولة وتقول إن من واجب مواطنيها أن يكونوا موالين لها كان له في بداية الأمر واقعاً حسناً، وكسب بعض التأييد من حكومات المنطقة التي سرعان ما اكتشفت لاحقاً بأن تحويل الولاء من شخص إلى فكرة مجردة يثير العديد من الصعوبات الغير متوقعة· لقد استخدم المصطلح لكي يوصل إلى البشر فكرة القطر، أو ما يسميه الفرنسيون Patrie' الذي يعني بالعربية وطناً· هذه الفكرة انتقلت بعد تعرضها لتغيير طفيف في النطق إلى التركية والفارسية ولغات أخرى تنطق بها الشعوب المسلمة الأخرى· كان معنى كلمة وطن هو مقر منبت الإنسان أو أصل إقامته·
وتفرق بعض المعاجم القديمة بين الوطن الأصلي بالمعنى الضيق للكلمة وبين الوطن بالأمر الواقع· إن وطن الإنسان يمكن أن يكون شيئاً مدركاً بالحواس أو فكرة عاطفية وجدانية مشوبة بالحب الشديد والاخلاص والتفاني كما تشير إلى ذلك العديد من الأدبيات الإسلامية التقليدية، فقد كتب الجاحظ نصاً حول العاطفة التي يكنها الشخص للأرض التي ينتمي إليها، ويشير حديث شريف إلى أن حب الوطن من الإيمان· وعندما يكون الوطن مرتبطاً بالشعور العاطفي فإن كلمة وطن تقابل مصطلح Home وليس Patrie' الفرنسي، فكلة وطن بمعنى Home تحمل قدراً هائلاً من الارتباط برقة الشعور·